Home > CV > Publications > Arabic
.
الديموغرافيا الخطرة: سكان مصر في القرن الحادي والعشرين
د. أيمن زهري
خبير السكان ودراسات الهجرة
azohry@zohry.com
.
1. مقدمة:
لا تهدف هذه الدراسة للترهيب من الزيادة السكانية بعد أن أصبحت أمراً واقعاً في مصر لأن هذا الأسلوب لم يجُدِ نفعا خلال الخمسين عاما الماضية. ليس لهذا السبب فحسب، لكن لأن أي نوع من الترهيب لم يعد بإمكانه، في ظل الظروف الحالية والمنظورة على المستوي المتوسط والمتوقعة على المستوى البعيد، أن يخفف من وطأة العبء السكاني في مصر إن لم يتزامن ذلك مع تغيرات جوهرية في بنية المجتمع المصري لا اتوقع حدوثها خلال العقود القادمة.
تهدف هذه الدراسة، بعيدا عن الترهيب أو الترغيب، إلى قراءة علمية متأنية لتوجهات الزيادة السكانية في مصر خلال القرن الحادي والعشرين. تتخذ الدراسة من المنهج الوصفي التحليلي سبيلا لتحقيق أهدافها، وتعتمد بالأساس على بيانات اسقاطات السكان التي أعدها مكتب السكان بالأمم المتحدة والتي تغطي الفترة من 1950 إلى 2100.
.
2. أبعاد المشكلة السكانية:
تتمثل المشكلة السكانية في عدم التوافق بين حجم السكان وتوزيعهم المكاني (الجغرافي) وخصائصهم من ناحية، وبين موارد المجتمع والتنظيم الاجتماعي والإقتصادي لاستغلال تلك الزيادة السكانية من الناحية الأخرى. وقد إهتمت مصر بالزيادة السكانية وتداعياتها السلبية منذ وقت بعيد. ظهرت البوادر الاولي للاهتمام بالمشكلة السكانية في مصر عام 1936 في كتاب العالم المصري الدكتور محمد عوض محمد بعنوان سكان هذا الكوكب. في عام 1937 عقدت الجمعية الطبية المصرية مؤتمراً عن تنظيم الاسرة من الناحية الصحية. في عام 1966 تم تأسيس الجمعية المصرية لتنظيم الاسرة. في عام 1965 قامت مصر بأنشاء المجلس الاعلي لتنظيم الاسرة برئاسة رئيس الوزراء. في عام 1972 أعيد تشكيل هذا المجلس بأسم المجلس الاعلي لتنظيم الاسرة والسكان واعلنت الحكومة سياسة وطنية جديدة للسكان لمدة عشر سنوات عرفت بالمدخل الاجتماعي والاقتصادي لخفض الانجاب. في عام 1984 انعقد مؤتمر لتقييم السياسة القومية للسكان عن الفترة من 1972 إلى 1982 وقد انتهي المؤتمر بأصدار توجيه بانشاء المجلس القومي للسكان. في عام 1985 صدر القرار الجمهوري رقم 19 بإنشاء المجلس القومى للسكان ليكون مسئول عن مواجهة المشكلة السكانية جنباً إلى جنب مع بعض الأجهزة الحكومية والأهلية التى تعاونه في تحمل هذه المسئولية. توالت بعد ذلك الكيانات المؤسسية المعنية بالمسألة السكانية، مع الاحتفاظ بالمجلس القومي للسكان، حيث قامت الدولة بإستحداث منتصب وزير الدولة للأسرة والسكان قبل إنعقاد مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994 ثم تم إلغاء المنصب وعودته مرة أخرى ثم إلغائه مجددا وتعيين نائب وزير لشئون السكان مؤخرا تحت إشراف وزارة الصحة التي تغير إسمها لوزارة الصحة والسكان.
.
يدرك العاملون في حقل السكان في مصر أن الزيادة السكانية في مصر لا تتمثل فقط في زيادة أعداد المواليد وإنما في سوء التوزيع الجغرفي للسكان علي خارطة مصر وكذلك تدني الخصائص السكانية وعلي رأسها إرتفاع معدلات الأمية وتدني مؤشرات الصحة العامة. لذلك قامت ركائز السياسة السكانية علي هذه المحاور الثلاثة: إرتفاع معدلات المواليد، الخلل في توزيع السكان وتدني الخصائص السكانية، إلا أن الإهتمام العام في وسائل الاعلام دائما ما يصور المشكلة السكانية عادة علي أنها زيادة عددية فقط وهو ما يجافي الحقيقة ويتناسي عنصر الكثافة السكانية، والأهم من ذلك عنصر الجودة متمثلا في الخصائص السكانية.
.
3. التحديات الديمغرافية:
على الرغم من الجهود المبذولة لمواجهة المشكلة السكانية إلا أن مصر مازالت تواجه العديد من التحديات. تتمثل التحديات الديموغرافية في الحالة المصرية كما أبرزتها الاستراتيجية القومية للسكان 2015-2030 في الحقائق التالية:
- ارتفاع معدل الإنجاب الكلي من ثلاثة أطفال لكل سيدة في المتوسط قبل ثورة يناير 2011 الي 3.5 طفل حاليا.
- التأثير السلبي لعدم إنتظام تقديم الخدمات العامة بعد ثورة يناير 2011 وهو ما إنعكس بالسلب على خدمات تنظيم الأسرة وتوافر وسائل تنظيم الأسرة وعلى جودة الخدمات المقدمة.
- زيادة نسبة الأُسَرتحت خط الفقر وتراجع مكانة المرأة بصفة عامة.
- ارتفاع تأثير الزيادة السكانية على تراجع نصيب الفرد من الإنفاق على التعليم والصحة والإسكان والنقل والمواصلات وكذلك تراجع نصيب الفرد من المياه والطاقة والأرض الزراعية.
- تزايد التحديات البيئية التي تواجه مصر نتيجة للزيادة السكانية خاصة فيما يتعلق بالمياه والصرف الصحي والتلوث ونمو العشوائيات وضعف القدرة على ضبط منظومة التخلص من النفايات بما ينعكس على الحالة الصحية للمواطن المصري.
- تزايد تأثير التيار المحافظ في المجال العام بما ساهم في تراجع القيم الإنجابية التي تتبنى مفهوم الاسرة الصغيرة والمباعدة بين الولادات. ساهم هذا التيار أيضا في نمو القيم المناهضة لتمكين المرأة وهو ما أدي لتراجع مكانة المرأة في المجال العام.
- إستمرار درجة التفاوت في المؤشرات السكانية والتنموية بين المناطق الجغرافية.
- تراجع دور الإعلام في مجال التعريف بالمشكلة السكانية والدعوة لتنظيم الأسرة وتبني نمط الأسرة الصغيرة وتراجع قدرة ودور الإعلام الحكومي في مواجهة الإعلام الخاص.
أضف الي ذلك التركيب العمري الفتي للمجتمع المصري حيث بلغت نسبة السكان أقل من 15 عاما حوالي ثلث السكان(33.1 بالمائة من إجمالي السكان) عام 2015 والتي من المتوقع أن تتشهد انخفاضا طفيفا لتصل الى 29.5 بالمائة بحلول عام 2030 ما يزيد العبء على خدمات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية.
.
4. سكان مصر سابقا وحاضرا ومستقبلا:
ارتفع عدد سكان مصر من 20.7 مليونا عام 1950 إلى 69.9 مليونا بحلول عام 2000، ثم توالى الارتفاع ليصل عدد السكان إلى 93.8 مليونا عام 2015. طبقا لإسقاطات السكان، من المتوقع أن يصل عدد السكان إلى 119.7 مليون نسمة عام 2030 وهو ما يعادل 127.7 بالمائة من إجمالي السكان عام 2015. بحلول عام 2050 من المتوقع أن يصل عدد سكان مصر إلى 153.4 مليون نسمة وهو ما يعادل 163.6 بالمائة من إجمالي السكان عام 2015، ثم يتوالى الارتفاع ليصل عدد السكان بنهاية القرن الحادي والعشرين إلى 198.7 مليون نسمة أو ما يعادل أكثر من ضعف سكان مصر عام 2015 (211.9 بالمائة).
.
شكل رقم 1
تطور عدد سكان مصر (بالمليون نسمة)، 1950 - 2100
.
جدول رقم 1
تطور عدد السكان، مصر (1950-2100)
المصدر: حسبت بيانات السكان من قاعدة بيانات الأمم المتحدة للسكان 2017. نسبة السكان الى عام 2015 محسوبة بواسطة الباحث.
.
5. الخصوبة:
يلاحظ المتتبع لمعدلات المواليد ومعدل الخصوبة الكلي (عدد الأطفال لكل امرأة في سن الحمل) أن معدل المواليد قد انخفض من 50.6 في الألف خلال الفترة -19551950 إلى 25.2 في الألف خلال الفترة 2005-2010 قبل أن يعاود الارتفاع مرة أخرى خلال الفترة 2010-2015 ليصل إلى 28.5 في الألف خلال الفترة 2010-2015 وهي الفترة التي واكبت الحراك السياسي المصري الذي بدأ في 25 يناير 2011. يُعزى هذا الارتفاع إلى تأثر الخدمات الامة الخاصة بالصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة بسبب عدم الاستقرار السياسي وانتشار القيم المناهضة لقيمة الأسرة الصغيرة وتمكين المرأة. نرى أن هذا الارتفاع استثنائيا، حيث من المتوقع أن تعود معدلات المواليد لمسارها الطبيعي لتعاود الانخفاض مرة أخري كما هو موضح في الجدول رقم 2 أدناه.
.
إذا انتقلنا للحديث حول معدل الخصوبة الكلي، يعد معدل الخصوبة الكلي مقياسا منقحا لمعدل المواليد في بلد ما حيث تُنسب المواليد للإناث في سن الحمل 15-49 سنة بدلا من نسبة المواليد لكل ألف من السكان (ذكوراً وإناثاً)، ويستخدم هذا المقياس لعقد المقارنات الدولية، كما يستخدم في البلد الواحد لتتبع مستويات الخصوبة عبر الزمن. يلاحظ انخفاض معدل الخصوبة الكلي من 6.62 مولود حي لكل امرأة في سن الإنجاب (15-49) الى 2.98 مولود حي خلال الفترة 2005-2010 قبل أن يعاود الارتفاع ليصل الى 3.38 مولود حي خلال فترة الحراك السياسي المصري 2010-2015 لنفس الأسباب السابق ذكرها قبل أن يعاود الانخفاض مرة أخري طبقا لتقديرات الأمم المتحدة خلال الفترة القادمة.
.
جدول رقم 2
معدل المواليد ومعدل الخصوبة الكلي، مصر (1950-2100)
المصدر: حسبت من قاعدة بيانات الأمم المتحدة للسكان 2017.
.
6. الوفيات:
يلاحظ المتتبع لمعدل الوفيات الخام في مصر انخفاض معدل الوفيات الخام بشكل كبير خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لا يعود هذا الانخفاض فقط الى تطور الرعاية الصحية والتوسع في تغطية الدولة بالوحدات الصحية الحكومية خلال الفترة التي تلت ثورة يوليو 1952، لكن يعود أيضا الى الهرم السكاني الفتي للسكان في مصر. انخفض معدل الوفيات من 25.4 في الألف خلال الفترة 1950-1955 إلى 6.8 في الألف بنهاية الألفية الثانية (1995-2000)، ثم استمر الانخفاض ليصل معدل الوفيات الخام لـ 6.2 في الألف خلال الفترة 2010-2015. من المتوقع أن يستمر هذا الانخفاض، متأثرا بالتركيب العمري الفتي، حتى الفترة 2025-2030 قبل أن يعاود الارتفاع مرة أخرى ليصل الى 9.1 في الألف بنهاية الألفية الثالثة.
.
جدول رقم 3
معدل الوفيات وتوقع العمر عند الميلاد، مصر (1950-2100)
.
7. الهجرة:
كانت مصر، عبر تاريخها الطويل، من الدول المستقبلة للهجرة، وحتى خمسينات القرن العشرين كانت هناك جاليات يونانية وإيطالية ويهودية وأرمينية وجاليات مهاجرة أخرى تتخذ من مصر موطنا لها. وقد ساهمت هذه الجاليات في إثراء الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر، وبرز من أبناء هذه الجاليات العديد من قادة السياسيين وقادة الفكر والأدب والفن من أمثال نوبار باشا الأرمني أول رئيس وزراء لمصر الحديثة وشاعر الإسكندرية العظيم قنسطنطين كفافيس اليوناني الأصل والمخرج السينمائي توجو مزراحي الإيطالي الأصل وغيرهم. رحل غالبية أبناء هذه الجاليات بعد الثورة المصرية وبقيت قلة قليلة من الجالية الأرمينية إنخفض عددها من حوالي 70 ألف في تلك الفترة الى ما لا يزيد عن ستة آلاف في الوقت الحالي.
.
لم تبدأ الهجرة من مصر في العصر الحديث إلا في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي حيث نمت تدريجياً حتى وصلت إلى الأرقام الحالية التي تتراوح بين ستة وسبعة ملايين من المهاجرين. والمصري بطبعه لا يحب الهجرة أو الانتقال بعيدا عن أرضه نظرا لطبيعة المجتمع الزراعي الذي يميل للاستقرار والارتباط بالأرض. وأغلب الظن أن المصري لا يهاجر الى تحت ظروف قاهرة - ويبقى حلمه بالعودة لبلده وإن طالت فترة بقائه في الخارج. وقد علق البروفيسور ويندل كليلاندس – وكان أستاذا بالجامعة الأمريكية في ثلاثينات القرن العشرين - في كتابه الصادر عام 1936 على تلك الظاهرة بقولة "المصريون لا يهاجرون إلا للدراسة أو السياحة، وعادة ما يعودون. المصري لا يهاجر،" وعلى الرغم من مرور أكثر من سبعين عاما على هذه المقولة الشهيرة إلا أنها مازالت تعبر عن حال الهجرة المصرية حتى يومنا هذا.
.
الهجرة المصرية يغلب عليها طابع الهجرة المؤقتة من خلال نظام العمالة التعاقدية حيث تمثل الهجرة المؤقتة أكثر من 70 بالمائة من الهجرة المصرية. بالنسبة للهجرة الدائمة أو ما تسمى أحينا الهجرة الاستيطانية فإنها لا تمثل ظاهرة يمكن أن تؤدي الى التأثير على حجم السكان حاليا أو مستقبلا. طبقا لإحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، لا يتجاوز عدد المهاجرين الدائمين من مصر ألفي مهاجر كل عام. بالنسبة للهجرة الى مصر، هي في الغالب لجوء مؤقت يزيد وينقص طبقا للظروف السياسية للدول المجاورة بدون أي أمل في التوطين في مصر نظرا لعدم رغبة الدولة المصرية في توطين اللاجئين كحل من الحلول الدولية السائدة لحل مشكلات اللاجئين. لذلك عادة ما نستبعد عنصر الهجرة في الحديث عن التركيبة السكانية في مصر. يتبدّى هذا جليّا في الجدول رقم 4 أدناه الذي يوضح معدلات الهجرة الصافية في مصر خلال الفترة من 1950 الى 2100.
.
جدول رقم 4
معدل الهجرة الصافية، مصر (1950-2100)
.
8. العلاقة بين معدلات المواليد والوفيات (الزيادة الطبيعية):
طبقا لنظرية التحول/الإنتقال الديموغرافي، يتحول السكان – سكان أي دولة – عبر فترة زمنية طويلة من معدلات مواليد مرتفعة ومعدلات وفيات مرتفعة يؤديان الي معدلات نمو سكاني منخفضة، الي معدلات مواليد منخفضة ومعدلات مواليد منخفضة أيضا يؤديان الي معدلات نمو سكاني منخفضة. لكن إنخفاض معدلات الوفيات عادة ما يسبق إنخفاض معدلات المواليد بما يؤدي الى خلق مرحلة بينية بين المرحلتين وهي مرحلة الزيادة السكانية المرتفعة وهو ما يعرف إصطلاحا بمرحلة "الإنفجار السكاني." يختلف طول مدة مرحلة الإنفجار السكاني من بلد الى آخر طبقا لدرجة تقدم الدولة ومستوى التعليم – خاصة تعليم الإناث الذي يرتبط إرتباطا وثيقا بإنخفاض الخصوبة – والإقتصاد والقيم والتقاليد ومكانة المرأة، بالإضافة الي البرامج السكانية التي تتبناها – أو كانت تتبناها الدول.
.
بالإعتماد على بيانات الأمم المتحدة لتقديرات وتوقعات معدلات المواليد والوفيات لمصر خلال الفترة من 1950 الى 2100 يوضح الشكل رقم 3 العلاقة بين معدلات المواليد والوفيات خلال تلك الفترة. وتمثل المساحة/المسافة بين المعدلين معدل الزيادة الطبيعية. يمثل هذا الشكل مرحلة ما يسمى بالإنفجار السكاني والمرحلة الأخيرة في التحول الديموغرافي المتمثل في تقارب معدلات المواليد والوفيات وإنخفاض معدل النمو الطبيعي أو ربما الوصول الي مرحلة إنخفاض معدل المواليد عن معدل الوفيات. إذن لن تصل مصر إلى مرحلة الاستقرار السكاني إلا في نهايات القرن الحادي والعشرين، وهو ما يمثل استمرار التعاطي مع الانعكاسات السلبية للزيادة السكانية لفترة طويلة قادمة.
.
جدول رقم 5
معدل الزيادة الطبيعية للسكان، مصر (1950-2100)
.
9. التركيبة السكانية:
أدّت معدلات الخصوبة المرتفعة التي شهدتها مصر في العقود السابقة إلى ارتفاع نسبة السكان في الفئات العمرية الفتيِّة (أقل من 15 عاماً) مما أدى إلى اتساع قاعدة الهرم السكاني وإلى ارتفاع معدلات الإعالة العمرية والذي أدى بدوره إلى العديد من الانعكاسات السلبية على مستوى الأداء الاقتصادي. وعلى الرغم من انخفاض معدل الإعالة العمرية في مصر من 82.9 عام 1980 إلى 61.8 عام 2015، إلا أن هذا المعدل ما زال مرتفعاً جداً ويعكس تأخراً في عملية التحول الديموغرافي في مصر، خصوصاً إذا ما قورن ببلدان شرق آسيا على سبيل المثال (اندونيسيا 49.2، سنغافورة 37.3، وتايلاند 40.0) وكذلك مقارنا ببلدان عربية مثل تونس (45.6) ولبنان (47.3). وعلى الرغم من انخفاض نسبة صغار السن (أقل من 15 سنة) خلال العقود الثلاثة الماضية من 40.9 في المائة عام 1980 إلى 33.1 في المائة عام 2015، إلا أن درجة الانخفاض لم تكن بالقدر الذي يمكن إن يحقق نقلة كبيرة في التركيب العمر للسكان لصالح جهود التنمية.
.
ربما يبين الرسم البياني الخاص بالتركيب العمري للسكان طبقا للفئات العمرية العريضة (الشكل 2) خلال الفترة من 1950 والتوقعات حتى عام 2100 تطور التركيبة العمرية للسكان، ويوضح الشكل المذكور ارتفاع نسبة مساهمة الفئات العمرية أقل من 15 عاما حيث بلغت 38.7 بالمائة عام 1950، انخفضت انخفاضا طفيفا لتصل إلى 33.1 بالمائة عام 2015، ومن المتوقع أن يستمر الانخفاض لتصل تلك النسبة الى 29.5 بالمائة عام 2030 ثم توالي الانخفاض الطفيف لتصل الي 25.4 بالمائة عام 2050، ثم يستمر الانخفاض لتصل إلى 17.0 بنهاية القرن الحادي والعشرين. في المقابل، ترتفع نسبة كبار السن (65+) من 3.0 بالمائة عام 1950 لتصل الى 5.1 بالمائة عام 2015، ثم توالي الارتفاع لتصل الى 6.6 بالمائة عام 2030، ثم إلى 10.6 بالمائة عام 2050، ثم يستمر الارتفاع لتصل إلى 21.7 بنهاية القرن الحادي والعشرين.
.
في المقابل، نلاحظ ثباتا نسبيا في الفئة العمرية المنتجة (15-64) خلال الفترة ذاتها، حيث ارتفعت تلك النسبة من 58.3 بالمائة عام 1950 إلى 61.8 بالمائة عام 2015. من المتوقع أن ترتفع تلك النسبة ارتفاعا طفيفا لتصل إلى 64.0 بالمائة عام 2030، ثم يتوالى الثبات تقريبا حتى نهاية القرن حيث من المتوقع أن تصل إلى 61.3 بالمائة بنهاية القرن الحادي والعشرين. يمثل هذا التركيب العمري فرصة سانحة لإستغلال الطاقة البشرية الهائلة في دفع عجلة الإنتاج والتنمية في مصر إذا ما أُحسَن توجيهها.
.
شكل رقم 2
سكان مصر طبقا للفئات العمرية العريضة (1950-2100)
.
جدول رقم 6
معدل الاعالة العمرية، مصر (1950-2100)
.
شكل رقم 3
.
10. التغيرات الهيكلية المجتمعية:
شهدت مصر العديد من التغيرات الهيكلية المجتمعية الحادة اعتبارا من ثورة يوليو 1952 أثرت على التركيبة المجتمعية وثقافة المجتمع بشكل عام. كان لتلك التغيرات الحادة أثرها الأكبر في تشكيل وعي الشعب وممارساته المجتمعية التي أثرت بشكل كبير في تعاطيه مع قضايا السكان. فقبل ثورة يوليو 1952 كانت مصر دولة زراعية طبقية تراتبية إلى حد كبير. في تلك الفترة لم تكن قد ظهرت على السطح بشكل جاد التعامل مع القضية السكانية. مع ثورة يوليو 1952 تحولت مصر من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي حديث أدى إلى زيادة الحراك المجتمعي وازدادت الهجرة من الريف إلى المدن للحاق بركب التقدم الصناعي حيث اجتذبت المصانع التي أنشأها عبد الناصر عشرات الآلاف من فائض العمالة الزراعية في الريف، كما تم التوسع في منظومة التعليم والصحة بإنشاء آلاف الوحدات الصحية والمدارس. هذا بالإضافة للاهتمام بالثقافة التي شكلت قوة مصر الناعمة والتي واكبت إتباع نهج حداثي تنويري انعكس في ارتفاع مكانة المرأة وتقليل الفوارق بين الجنسين والذي أدى بدوره إلى تبني نمط الاسرة الصغيرة.
.
خلال فترة حكم الرئيس الأسبق أنور السادات، ونظرا للظروف الاقتصادية التي شهدتها مصر الخارجة لتوها من تبعات اقتصاد الحرب، بدأت الدولة التخلي تدريجيا عن النهج الاجتماعي الناصري وتبنت سياسة الباب المفتوح اقتصاديا ما أثر علي الطبقة الوسطى. أضف إلى ذلك التخلي عن استيعاب الخريجين وارتفاع معدلات البطالة ما أدى إلى فتح أبواب الهجرة للعمل بالخارج. واكب ذلك ظهور النفط في الخليج ورغبة تلك الدول في الاستفادة من الوفورات المالية النفطية في دعم البنية التحتية والمؤسساتية لتلك الدول وحاجتها لاستقدام عمالة من الخارج. وافق الطلب على العمالة في دول الخليج العرض من العمالة في مصر وهو ما حدا بآلاف المصريين للتوجه للخليج لسد النقص في عنصر العمل هناك. تزامن ذلك مع التحول نحو الدولة "شبه الدينية" في مصر وإطلاق العنان للجماعات الإسلامية لمحاربة الناصريين والشيوعيين في فترة حكم الرئيس الأسبق محمد أنور السادات وهو ما أدى إلى أسلمة، إن شئت الدقة سلفنة ووهبنه، المجال العام في مصر بما استقدمته العمالة العائدة من بلدان الخليج من أفكار رجعية كان من المفترض أن يكون الزمن تجاوزها في مصر.
.
أدي ذلك إلى تراجع قوة مصر الناعمة وتراجع مكانة المرأة في المجتمع وانتشار التعليم الديني والعودة لبحث قضايا فقهية ومجتمعية كنّا نحسب أنها حسمت بالفعل منذ عشرات السنين مثل الاختلاط وعمل المرأة وتعدد الزوجات وختان الاناث وسن الزواج للمرأة ولباس المرأة وكذلك تنظيم الاسرة واستخدام الوسائل وقيمة الطفل في الاسرة وغيرها من القضايا المرتبطة بالأسرة. انتشرت في هذه الفترة الأفكار المستوردة على حساب الثقافة المصرية الريفية/الزراعية السمحة المتسامحة مع ذاتها وبدا أن المصريين في الخارج لا يقومون بنقل الاموال فقط لمصر من خلال التحويلات المالية للمهاجرين، لكنهم ينقلون أيضا تحويلات ثقافية ومجتمعية اخترقت نسيج الثقافة المصرية وأدت إلى تراجع الدور الثقافي لمصر لدرجة أنه يمكنني القول أن الأثر السلبي للتحويلات الثقافية والاجتماعية فاق في تأثيره أثر التحويلات المالية للمهاجرين وبات يهدد كيان الدولة ومقوماتها الأساسية.
.
في ظل تلك الهجمة الشرسة لا يمكن لبرامج تنظيم الأسرة أن تنجح، إذ لابد أن نعود للنهج التنويري الحداثي الذي ساد مصر في ستينات القرن الماضي مع الاخذ في الاعتبار، بالطبع، المستجدات الحديثة في العالم وثورة الاتصالات والمعلومات والعمل على ترسيخ القيم المصرية الأصيلة والارتقاء بمكانة المرأة لتتحول مجددا من وعاء للمتعة وإنجاب الأطفال إلى مواطن كامل المواطنة من خلال الاهتمام بالتعليم والثقافة ومشاركة المرأة الكاملة وغير المنقوصة في كافة مناحي الحياة.
.
11. خاتمة:
في خاتمة هذه الدراسة أحاول الإجابة عن بعض الأسئلة المحورية الخاصة بالمسألة السكانية بناءً على التحليل السابق: هل لدينا مشكلة؟ هل يمكن الاستمرار على نفس النهج؟ هل يعني ذلك أن نوقف الجهود الحالية؟ إلى بعض الاستنتاجات.
.
هل لدينا مشكلة؟
نعم لدينا مشكلة! المشكلة التي تواجهنا هي طول فترة المرحلة الانتقالية، طول فترة مرحلة الانتقال الى فارق مقبول بين معدلات المواليد والوفيات يفي بحاجة النشاط الاقتصادي ولا يؤدي الى زيادة عدد الأطفال أقل من 15سنة وبالتالي زيادة الداخلين الى سوق العمل وما يمثله ذلك من أعباء توفير الرعاية الأساسية للأطفال خاصة التعليم والصحة، وكذلك عبء توفير فرص العمل للداخلين الجدد الى سوق العمل. لكن السؤال الأهم، هل أُخِذنا على حين غِرّة، أي هل هذه أزمة أو كارثة مفاجئة مثل الكوارث الطبيعية، الزلازل والبراكين والفيضانات مثلا؟ بالطبع لا، فبرامج التوعية بأخطار الزيادة السكانية بدأت في نفس التوقيت التي بدأت فيه في العديد من دول العالم النامي منذ ستينات القرن الماضى وتلقت مصر ملايين الجنيهات من الهيئات الدولية لدعم تلك البرامج.
.
هل نجحت تلك البرامج؟
نعم نجحت وإنخفضت الخصوبة من خمسة أطفال لكل أنثي في ثمانينات القرن الماضي الي ثلاثة أطفال لكل أنثي عام 2010. ولكن يلاحظ أن معدل الخصوبة خلال العقدين الأخيرين ظل ثابتا عند مستوى ثلاثة أطفال لكل أنثى بما يشير الي أننا وصلنا للحد الأقصى الممكن في ظل الوضع الإجتماعي والإقتصادي الحالي وهو ما لا يدركه الكثيرون ممن يرفعون في وجوهنا لافتات التحذير على شاكلة الساعة السكانية القابعة أعلى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء التي تذكرنا بحملات الترهيب والترغيب القديمة على شاكلة "أنا رمز تنظيم الأسرة" و"طفل كل 27 ثانية" وأغنية حسنين ومحمدين الشهيرة في ثمانينات القرن الماضى، هذا بالإضافة الي الصدمة الإحصائية المتمثلة في عدد المواليد السنوى (2.6 مليون).
.
هل يمكن الاستمرار على نفس النهج؟
عندما تستنفذ كل نقاط التوازن بين منحنيي العرض والطلب لابد أن يتحرك المنحنيان ذاتهما حيث لا تصلح أي نقطة على المحورين للتوفيق بين العرض والطلب. في علم الإقتصاد يتحرك منحنى العرض عندما تظهر موارد جديدة للدولة مثل إكتشاف إحتياطى كبير من النفط أو الغاز أو الموارد الطبيعية أو غيرها. يحدث ذات الشىء بالنسبة للطلب عند تغير أذواق المستهلكين أو إرتفاع قدراتهم الشرائية بشكل مفاجئ بما يؤدي لتحرك منحنى الطلب. في التعامل مع المسألة السكانية يمكن القول أن المنحنيات القديمة، عرضا وطلبا، قد تم إستنفاذ كل نقاط التلاقي بينها وأصبح من غير الممكن الوصول الى نتائج أفضل في ظل الوضع الحالي وبإستخدام نفس الآليات القديمة وأصبح من المحتم الإنتقال الى منحنيات جديدة للمواءمة بين الطلب على الإنجاب والموارد المتاحة.
.
هذا المنحنى الجديد، الذي أعنيه، هو حتمية حدوث تغيير هيكلي في المجتمع المصري وفي العلاقات المجتمعية والأسرية وفي النظرة للمرأة ومؤسسة الزواج والمساواة بين الجنسين وقيمة الطفل وعمالة الأطفال والوصول الى جودة في العملية التعليمية تؤدي الى إحداث نقلة نوعية في مدارك الأشخاص ونظرتهم للحياة ودور الدين في المجتمع. وعلى الرغم مما يمثله الحراك الشعبي الذي شهدته مصر منذ 25 يناير 2011 أو قبلها بقليل وحتى وقتنا هذا من نقلة نوعية في طبيعة العلاقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، إلا أنني أستطيع القول، بكثر من التأكد، أننا مازلنا نعيش في ظل نفس الأطر المجتمعية والإقتصادية التي سبقت تلك الفترة وأن الطريق أمامنا طويل ومليء بالمطبات والمقبات التي تجعل من إحداث مثل هذا التغيير الهيكلي عملية عسيرة ومعقدة ولكنها في نفس الوقت حتمية!
.
هل يعني ذلك أن نوقف الجهود الحالية؟
الإجابة بالطبع لا! لا يجب أن تتوقف الجهود الحالية، خاصة تلك الجهود المرتبطة بتقديم خدمات الصحة الإنجابية وتوفير وسائل تنظيم الأسرة وعلاج العقم كجزء من خدمات الرعاية الصحية الأساسية وخدمات الأمومة والطفولة وتمكين المرأة والمساواة بين الجنسين وكافة الحقوق الأخرى التي كفلها الدستور المصري لكافة المواطنين. لكن لا يجب أن نعوّل على تلك الجهود كثيرا في خفض معدلات الزيادة السكانية، لأنه كما سلف الذكر، هامش المناورة في هذه المسألة يظل ضعيفا جداً ما لم نسعَ الى إحداث التغير الهيكلي المنشود في بنية المجتمع المصري، أو بمعنى أدق ما لم نسعَ الي زيادة وتيرة ذلك التغير الهيكلي في بنية المجتمع.
Homepage Index